أتيت من جنوب أفريقيا سنة 1967 كمتطوعة في حرب الأيام الست معتقدةً أنني سأبقى هنا لحوالي ستة أشهر. كنت أريد أن أغادر جنوب أفريقيا بكل الأحوال لأنني كنت نشيطة في الحركة المعادية للتمييز العنصري، وكانت قد بدأت تصبح حينها إكراهية بشعة. في الواقع كنت أريد العيش في الولايات المتحدة ثم أتيت إلى هنا وتعلمت اللغة العبرية وبقيت هنا ثم تزوجت، وأنجبت طفلين، وعملت في صحيفة الجيروساليم پوست وعملت بعد ذلك مع المهاجرين لأساعدهم في الحصول على عمل. وبعد انفصالي عن زوجي، انتقلت إلى تل أبيب وسكنت أنا وأولادي فيها.
لقد ربيت أطفالي ديڤيد وايران على قيم التسامح ، والمحبة، والتحرر، لقد كنا ثلاثتنا كالمثلث. التحق ديڤيد بمدرسة “ثيلما يلين” للفنون لأنه كان موسيقياً موهوباً. على الأرجح كان هو الوحيد في صفه الذي التحق بالجيش. لقد فوجئت كثيراً لاختياره هذا لكن أعتقد أنك لا تستطيع أن تتحمل المسؤولية في حياة شخص أخر حتى لو كان ذلك الشخص هو ولدك.
حتى أثناء خدمته النظامية في الجيش كان ديڤيد في حالة صراع نفسي لأنه لم يرغب أن يخدم في الأراضي المحتلة. ثم أصبح ضابطاً وطُلب منه الذهاب إلى الخليل. لقد أصبح حينها في مأزق و جاء إلي قائلاً: ماذا سأفعل بحق الجحيم؟ أنا لا أريد أن أكون هناك. قلت له: حسناً، إذا أردت الذهاب إلى السجن سأدعمك لكن السؤال هو ؛ هل ستحدث فرقاً إذا ذهبت إلى السجن؟ وبصورة أساسية نقول إن الذي سيحدث هو كالآتي: سيرسل إلى السجن، وسيخرج ثانية، ومن ثم سيرسلونه إلى مكان آخر (في الأراضي المحتلة). إنها قصة لا منتهية. لو أن رفضه للخدمة كان سيحدث ضجة كبيرة ويفعل شيئاً، لكان هذا هو الخيار الصحيح، لكن يمكنك أيضاً أن تذهب، وأن تكون قدوة لغيرك بمعاملتك لمن حولك من الناس باحترام.
رأيت الآثار النفسية السلبية على أولادي بعد الخدمة العسكرية خلال الانتفاضة الأولى. لقد ترعرع أولادي في بيتٍ لم يفرق أبداً بين العقيدة واللون، كنا نحب الناس. خلال كل هذه الخدمة العسكرية هذا ما كان يحدث كل الوقت، ثم شكل بعض الضباط الذين رفضوا الخدمة في الأراضي المحتلة مجموعة ، وانضم ديڤيد إليهم وشارك في كل المظاهرات وكان بذلك أيضاً جزءا من حركة السلام.
بعد الجيش التحق ديڤيد بجامعة تل أبيب ودرس فيها الفلسفة وعلم النفس، ثم بدأ بالتحضير للماجستير في فلسفة التعليم. كان يعلم الفلسفة في برنامج ما قبل الخدمة العسكرية لإعداد القيادات الاجتماعية، وكان يدرس في جامعة تل أبيب كذلك.
وعندما استدعي للخدمة ضمن قوات الاحتياط، عاد وطرح الموضوع مرة أخرى: ماذا عليه أن يفعل، فهو لا يريد الذهاب وإذا ذهب لا يريد الخدمة في الأراضي المحتلة. وإذا لم يذهب فهو بذلك يخيب أمل جنوده؛ إذا لم يذهب فأي مثال سيكون هو للأولاد الذين يعلمهم الفلسفة لأنهم سوف يدخلون الخدمة العسكرية بعد شهرين من خدمته مع القوات الاحتياطية، وإذا ذهب سيعامل أي شخص، أي فلسطيني باحترام وكذلك سيفعل جنوده اقتداءً به. قلت له: قد تكون أنت مثالا جيداً إذا رفضت الخدمة. فقال لي: لا أستطيع أن أخيب ظن جنودي، وإذا لم أذهب سيذهب أحد بدلاً مني، وسيفعل أشياء فظيعة.
على كل حال، ذهب ديڤيد لتأدية الخدمة الاحتياطية وكان يراودني شعور سيء لا أعرف ما هو لكني أظنه كان خوفاً. اتصل بي ذلك السبت وقال لي: لقد فعلت كل شيء لحمايتنا، أنت تعرفين أنني أحب حياتي لكن هذا مكان رهيب وأشعر أنني هدف سهل. لم يشاركني تلك الأمور قط. لم يخبرني أولادي قط ماذا كانوا يفعلون في الجيش. كانوا دائماً يقولون لي قصصاً سخيفة ظناً منهم أنني سأصدقهم.
في اليوم التالي استيقظت باكراً جداً وذهبت إلى العمل قبل موعدي بساعات، لم أرغب بالبقاء في المنزل، حيث تملكني شعور بالقلق.
قتل ديفيد على يد قناص فلسطيني هو وتسعة من رفاقه الجنود. حيث كان يؤدي خدمته في حاجز سياسي بالقرب من مستوطنة “عوفرا.” وبعد يومين من مقتله قام الجيش بإلغاء هذا الحاجز. أظن أنني كنت أتكلم عن التعايش والتسامح طوال حياتي، ولا بد لهذا أن يكون مغروساً في نفسي بطريقة ما لأن أول شيء قلته هو: لا يمكنكم أن تقتلوا أحداً باسم ولدي. لذا أظن أن هذا أمر غير طبيعي نوعا ما، وغير متوقع مع مثل ذلك النبأ.
أن تصف ما معنى أن تخسر ولداً هو أمر من أكثر الأمور استحالة، لأن حياتك كلها تتغير تماما والى الأبد. لا يعني ذلك أنني لم أعد نفس الشخص، بل أنا نفس الشخص مع الكثير من الألم. أينما أذهب أحمل ذلك معي. تحاول الهروب في البداية لكن لا يمكنك، لقد سافرت عبر البحار، ذهبت إلى الهند وعدت ثانية ، لكن الألم يذهب معك أينما كنت وارتحلت.
كان لدي مكتب علاقات عامة، وكنت أعمل مع المحطة الوطنية للتاريخ والجغرافيا (ناشينول جيوغرافيك آند هيستوري شانيل) وكنت أعمل مع الطعام والنبيذ وكل الأشياء الجيدة في الحياة، بالإضافة إلى العديد من الأمور التي لها علاقة بمشاريع التعايش مع المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الخط الأخضر. لم أكن متصلة سياسيا بشكل خاص، كان معظم نشاطي على مستوى اجتماعي: الرفق بالحيوان، الأطفال، ومشاريع التعايش.
كنت دائماً أقوم بالكثير من العمل التطوعي؛ بذلت الكثير في سبيل تلك الأمور وكانت دائماً جزء من كينونتي. لكن بدأ عملي يخسر كل شيء… لم أعد أستمتع بما أقوم به. أصبح سلم أولوياتي مختلفاً تماماً الآن. لم يعد جلوسي في اجتماع لأقرر بأي طريقة يجب تسويق ذلك النوع من النبيذ أمر له علاقة بالنسبة لي؛ ولم أعد أحتمله.
كنت محظوظة جداً حيث كان هناك فتيات رائعات يعملن معي في المكتب وتوليّن إدارة المكتب عني لسنة ، إلا أنني قررت إغلاقة فلم يعد بإمكاني احتماله .
جاء إسحق فرانكينتال، مؤسس منتدى العائلات الثكلى، ليكلمني ولم أكن حينها واثقة أن هذا هو الطريق الذي أريد أن أسلكه لكنني ذهبت إلى إحدى المؤتمرات. حيث كان الكثير من الإسرائيليين والفلسطينيين هناك ، إلا أنني لم أشعر حينها أنني بالاقتناع بعد. ولكن كلما مر الوقت، كلما شعرت أنني أريد العمل في مجال ما لأحدث تغيير.
قُتل ديڤيد في الثالث من آذار2002 وفي تشرين أول 2004 تم القبض على القناص الفلسطيني الذي قتل ديفيد،ولم اشعر حينها بأي رضا عدا عن الإحساس بأنه لن يفعل ذلك لأحد آخر.فلا منطق في الانتقام ولم ابحث ابدآ عن الانتقام . إلقاء القبض عليه كان بالنسبة لي بمثابة امتحان حقيقي أمام نفسي ، جاء هذا لامتحان ليفحص إذا ما كنت فعلا اقصد ما أقول عندما أتحدث عن المصالحة ، وهل أنا وفية لنفسي ولعملي ، بعد أربعة شهور من الحيرة قررت إرسال رسالة إلى عائلة القناص . ليالي طويلة لم أنم وأنا ابحث داخل نفسي ، حاولت أن استوضح مع نفسي إذا ما كنت اقصد ذلك بالفعل. وفي نهاية تلك الليالي الحالكة كتبت الرسالة وأرسلتها لعائلة القناص بواسطة اثنين من أعضاء المنتدى هم ؛ علي أبو عواد و ندوة سرندح.
عائلة القناص قالت لعلي وندوة- بأنها سترسل الرسالة إلى ابنها المسجون ووعدوا بإرسال الرد لي. مثل هذه الأمور تستغرق وقتا كثيرا ، أحيانا تستغرق سنوات ، وأنا انتظر؛ وهذه الرسالة تعتبر إحدى المنعطفات المهمة في عملية تطور شخصيتي.
كانت السنوات التي عملت بها مع منتدى العائلات تجربة رائعة بالنسبة لي. لقد تعلمت الكثير من أجل تطوري الشخصي، بصرف النظر عن العمل الذي أقوم به، الذي هو تقريباً السبب الذي أستيقظ من أجله كل صباح ، أشعر أن من واجبي القيام بذلك ؛ بل إنه ليس الواجب الذي أقوم به كمعروف لأحد بل كمهمة شخصية. أنا أعرف أن هذا يجدي نفعاً. أنا أؤمن أن إزالة الصورة النمطية عن كل من الطرفين والتعرف على الشخص بالطرف الآخر هو إزالة للخوف، وهو طريق لنفهم أن عملية المصالحة طويلة الأمد ممكنة. هذا أيضاً مبني على خلفيتي كشخص من جنوب أفريقيا، وعلى رؤيتي لمعجزة جنوب أفريقيا وكيف حدث كل هذا وأنه كان في الحقيقة ممكناً.
على قبر ديفيد مكتوب اقتباس عن جبران خليل جبران:
” الأرض هي وطني والإنسانية هي عائلتي”
نص الرسالة التي أرسلتها روبي داملين إلى عائلة قاتل ابنها:
” بالنسبة لي ، هذه أصعب رسالة عليّ أن اكتبها، أنا روبي داملين ، والدة ديفيد الذي قُتل على يد ابنكم. أنا أعرف أن ابنكم لم يقتل ديفيد لكونه ديفيد ، فلو كان يعرف ديفيد ، لما فعل ذلك.
ديفيد كان يبلغ من العمر 28 عاما ، جامعي، يتعلم لقب ثاني ” فلسفة التربية” في جامعة تل أبيب. كان عضو في حركة السلام ولا يريد الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، كان لديه رحمة لجميع الناس وهو يدرك مدى معاناة الفلسطينيين، تعامل مع من حوله باحترام. كان ضمن مجموعة الضباط الذين رفضوا الخدمة في المناطق المحتلة ، ولأسباب كثيرة قام بالخدمة عندما أُمر بذلك .
ما الذي يدفع أبناؤنا ليفعلوا ما يفعلوه، هم لا يدركون الألم الذي يسببوه ، ابنكم سيمضي سنين كثيرة في السجن . بينما ابني بعد الآن لن ألمسه ، لن أراه ، لن أزوجه ولن أكون جدة لأولاده ابدا. أنا لا استطيع أن أصف لكم الألم الذي اشعر به منذ موته كذلك أخيه وصديقته وكل من عرفه وأحبه.
كل حياتي عملت من أجل التعايش، هنا في إسرائيل وفي جنوب أفريقيا. بعد مقتل ديفيد بدأت أبحث عن طريق تمنع الإسرائيليين والفلسطينيين تجربة فقدان كهذه ، بحثت عن طريق توقف دائرة العنف. لاشيء عندي مقدس أكثر من حياة الإنسان، لا ثأر ولا كراهية تستطيع أن تعيد لي إبني.
بعد أن أغلقت مكتبي بسنة انضممت إلى منتدى العائلات. نحن مجموعة عائلات إسرائيلية وفلسطينية فقدت في الصراع أفراد من العائلة . نحن نبحث عن طرق لإيجاد حوار، حيث رؤيتنا على المدى البعيد هي المصالحة.
بعد إعتقال ابنكم، قضيت ليالي كثيرة بدون نوم، قضيتها أفكر، ماذا علي أن أفعل؛ هل علي أن أتجاهل الموضوع ، أو أن أكون مستقيمة مع ذاتي ومع ما أقوم به أن أجد طريق للمصالحة. هذا قرار ليس سهلاً على أي احد ، وأنا إنسانة عادية ولست مقدسة. وصلت لقرار بأني أريد أن أختار طريق الصلح. ربما من الصعب عليكم أن تفهموا وأن تؤمنوا لكن أنا أعي في داخلي، هذه هي الطريق الوحيدة التي أستطيع أن أختارها.إذا كان ما أقوله هو ما اؤمن به فهذا هو السبيل الوحيد.
أنا أعي تماماً أن أبنكم بمرتبة بطل بنظر الكثيرين من الشعب الفلسطيني، مناضلاً في سبيل الحرية، مناضلاً من أجل العدالة، المقاتل من أجل دولة فلسطينية مستقلة، ولكنني أشعر أنه لو ادرك ان سلب حياة شخص أخر، ليس حل، ولو أنه فهم نتيجة عمله لأدرك أن الحل السلمي هو الحل الوحيد الذي يمكِّن الشعبين من العيش بسلام.
حياتنا كشعبين مرتبط احدنا بالآخر، كل واحد عليه أن يتنازل عن أحلامه من اجل مستقبل أولادنا الذين نتحمل مسؤوليتهم.
أنا أرسل هذه الرسالة مع أشخاص أحبهم وأثق بهم ، وسيحدثونكم عما نقوم به ولربما يُدخِلوا الأمل في قلوبكم. أنا لا أعرف ماذا سيكون رد فعلكم ، وهنا أنا أُخاطر، ولكنني على ثقة أنكم ستتفهمون، لأن الرسالة أتت من أكثر مكان صريح في داخلي. أتأمل أن توصلوا المكتوب إلى ابنكم ولربما نلتقي في المستقبل . تعالوا نضع حد للقتل ونبحث عن طريق بمساعدة التفاهم و التعاطف ، ولنحيا حياه طبيعية بدون عنف.