يعقوب شيفر، جدي الأكبر، وُلد في بوكوفينا في منتصف القرن التاسع عشر. تزوج حنه غوت ووُلد لهما عشرة أولاد وبنات. هاجر ابنهما البِكر الى انجلترا، وهاجرت اثنتان من بناتهما الى الولايات المتحدة ومات ابنهما الخامس من مرض في حداثته. وبقي الستة الباقون مع والديهم.
جدي، رفائيل شيفر، الذي كان أصغر الأبناء سناً، وُلد في سنة 1894. في الحرب العالمية الأولى خدم رقيبا في سلاح الفرسان للقيصر النمساوي – الهنغاري، وأسره العدو. عندما انقضت الحرب في سنة 1818 عاد الجد من ايطاليا الى بيت والديه، وعندما وصل، بعد صعوبات الطريق التي استمرت نحوا من سنة، وجد أنه قد عاد معه، في نفس الأسبوع حقا، أربعة من إخوته أيضا، خدموا هم أيضا في حرب ليست لهم، في جبهات أخرى.
لم يكن البيت الصغير ليعقوب وحنا كبيرا بما يكفي لاستيعاب جميع أبناء العائلة الذين كانوا قد أصبحوا بالغين كلهم. قال لي جدي إن معاداة السامية التي لقيها، في الجيش وفي الأسر، أدت به الى قرار الهجرة الى أرض إسرائيل. حقق حلمه ووصل ميناء يافا في أول أيار 1921، في نفس اليوم الذي بدأت فيه أعمال الشغب التي قُتل فيها الأديب حاييم برينر. هاجر أخوه الأكبر منه سناً أيضا، يحيئيل، الى البلاد في الهجرة الثالثة وبدأ كلاهما يعمل في تجفيف المستنقعات وشق الطرق. لقد حرصا على أن يوفرا من أجرتهما المتواضعة الى أن ملكا ما يكفي من المال ليُرسلا الى أحد إخوتهما، ليساعداه في الإنفاق على الرحلة الى البلاد وهكذا بقوى مشتركة، نقلوا الى هنا أخا بعد أخته وكذلك والديهم. بقي ثلاثة أخوة فقط هناك ليستقبلوا هتلر وجماعة قاتليه.
في سنة 1946 وصل الى تل أبيب شمشون شيفر، ابن شقيق جدي. قُتل والداه في الكارثة ونجا من معسكرات العمل والابادة. يضيق المقام هنا عن رواية قصة لقاء شمشون المؤثر، ابن الثامنة عشرة، بيعقوب جده. لم يعرف أحدهما الآخر قبل ذلك. ضم الجد رفائيل ابن أخيه في بيته في تل أبيب وساعده في إعادة بناء حياته. في حرب التحرير تجند شمشون وأصبح راميا في جفعاتي. وفي إحدى الليالي، في 3/6/1948 خرجوا في عملية غزو لأسدود. مروا في وادٍ موجود في مفترق عيد هلوم. مع سيرهم نحو الغاية تلقوا إبلاغا في جهاز الاتصال عن سريان فِعل وقف إطلاق النار الأول. أُلغيت العملية وكانوا عائدين الى القاعدة بيد أن المصريين، الذين مكثوا في ثكنة تُشرف على الوادي، سمعوهم في سيرهم وخبأوا لهم شركا. عندما دخل جنود جفعاتي منطقة النار صوبوا إليهم بلا رحمة. قُتل شمشون ابن العشرين مع جميع الرُماة في جفعاتي وهم مدفونون في قبر جماعي في مقبرة كفار فيربورغ. تحرص أمي، وأختها وسائر أبناء أعمام شمشون طوال السنين على زيارة قبره في كل يوم ذكرى لأنه كان ناجيا من النار بغير عائلة.
قبل حرب التحرير هاجر الى البلاد من انجلترا، بول، وروز وأبناؤهما الثلاثة. بول هو ابن ماركوس، الأخ الذي هاجر من بوكوفينا الى انجلترا وهو ابن عم أمي. هنا، في البلاد، وُلد ديفيد، الذي وُلد في شيخوخة بول وروز. في زمن الخدمة النظامية لديفيد، ضابطا في المظليين، أُصيب في سمعه وأصبح معفى من خدمة احتياط قتالية، ولكن عندما اندلعت حرب يوم الغفران انضم الى وحدة مظليين وقُتل في يوم 16/10/1973. عندما أُصيبت مركبته عند احتلال مفترق طرطور – لكسيكون بقرب المزرعة الصينية. كان ديفيد حفيد يعقوب شيفر في الخامسة والعشرين عند مقتله، وهو متزوج، وحقوقي في مهنته. تفرقت عائلته الكبيرة وفي أيام الذكرى كان يسافر بعضهم الى كفار فيربورغ وبعضهم الى المقبرة العسكرية في جبل هرتسل.
مرت تسع سنين قبل أن تحدث الكارثتان الآتيتان. قبل يومين من عملية سلامة الجليل، في 4/6/1982، قُتل عند الحدود اللبنانية أوري بلنسكي، وهو جندي شاب في العشرين من عمره من عسقلان. كان أوري صديق أخي، عزيز. برغم الفرق في السن نشأت علاقة خاصة وثيقة بينهما وكان أوري يمكث في بيت أخي ساعات طويلة في كل اسبوع. ذهبت مع أخي لمصاحبة أوري في طريقه الأخيرة ورأيته مُنكسرا أسفا. بعد جنازة أوري مضى كل واحد منا الى بيته. انقضى الليل وفي الغد، في ساعة الصباح جاء إلى بيتنا صديق أخي. قال إنه مضى لزيارته ووجده ميتا. قرر الأطباء أنه كان نزيف في الدماغ، لكنني أعلم أن أخي مات حزنا لموت أوري. هل يُعد أخي عزيز أيضا، ابن حفيد يعقوب شيفر، في ضحايا النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني؟.
اسحق عيران ابن يحيئيل وحفيد يعقوب شيفر. في تموز 1982 أُصيب في لبنان غاد عيران، ابن اسحق وحسية من بئر السبع، حينما صعدت سيارته الجيب على لغم في طريقها الى مهمة استطلاعية. أُصيب غاد بحروق شديدة، وصارع على حياته عدة أيام وقضى في 10/7/1982. كان غاد في الواحدة والثلاثين عند موته، متزوجا وأبا لبنت صغيرة، كان عالِم أحياء ناجحا ورجل بحث. قُتل ابن حفيد آخر ليعقوب وحنه.
لم أعرف جدتي حنه. لقد توفيت قبل أن أولد. أعرف شمشون من قصص أمي فقط. كنت طفلا عندما قُتل. لا أذكر جدي يعقوب أيضا برغم أنه قد امتد به العمر ثلاث سنين بعد أن قُتل حفيده شمشون. أما جميع الآخرين المذكورين في قصتي هذه فعرفتهم جيدا. كان الثكل والحداد جزءا لا ينفصل عن عائلتنا الواسعة. تحدثنا عن القتلى والمفقودين في لقاءات أيام الذكرى وكذلك في أحداث العيد والفرح.
لا أعرف هل كبت التفكير، أو أنني ببساطة لم أُثر في خاطري إمكانا كهذا، لكنني لم أخف قط أن يبلغ الثكل الى باب بيتي حقا حتى قُتلت في يوم الثلاثاء 9/9/2003 عند مدخل معسكر جدعونيم قبالة باب الخليل في الصرفند ابنتي ياعيل، وهي ضابطة في الخدمة النظامية في سلاح الاتصالات، وهي من الجيل الخامس ليعقوب وحنه شيفر.
تصل نصوص كثيرة الى طاولة عملي، وكمحرر لصحيفة “المنتدى” اقرأ كل كلمة بحرص كبير. أُحوّل أكثر المواد الى الطباعة بهذا القدر أو ذاك من العطف والمشايعة. عندما قرأت مقالة نوريت شاحم في الصحيفة الأخيرة (آذار 2006) وفيها المقطوعة التي تبحث في العملية المضاعفة قلت لنفسي فورا في خلال القراءة، بصوت مسموع وبغير أي تفكير سابق: عن أي عملية مضاعفة تتحدث؟ هذا بيع تصفية حقا. أمي، التي مرت في الرواق في تلك اللحظة، وقفت وسألت: الى من تتحدث هناك؟ هل بدأت تُحدث نفسك؟
لا شيء، لا شيء، أجبت وصمت.