أسمي يعكوف وقد وُلدت في بولندا سنة 1935 من أمي حاڤا وأبي سمحا غوترمان. عشنا في “بلوتسك” البلدة التاريخية العريقة الجميلة، حيث كان ثلث سكانها من اليهود. عند اندلاع الحرب العالمية الثانية كان عمري 4 سنوات، وسوية مع والديّ إجتزت فترة قاسية من الحبس في الغيتو، طَرد من المدينة إلى معسكر التركيز “سولداو”، ثمّ انتقال من بلدة لأخرى في ضائقة حادة وكثير من المشقات. وكان أبي قد خاطر بحياته من أجل توثيق تلك الفترة مستخدماً قطعاً طويلة من الورق كتب عليها بالإيديش، حشرها داخل الزجاجات وخبأها في الأقبية. بعد الحرب بعشرات السنين، عُثر على إحدى هذه الزجاجات وتم نشر محتواها، من خلال الكتاب “أوراق من االنار” الذي ظهر بسبع لغات.
للنجاة بنا، قام والدايّ بتغيير هويتهما وهويتي أيضاً بعد أن حصلا على بطاقات مزيفة وعلموني أن أصلّي باللغة البولندية صلوات مسيحية. حدث ذلك سنة 1942 حين بدأ الألمان بإرسال أعداد هائلة من اليهود للإبادة بأفران الغاز.
هنا بدأت سلسلة من التنقلات المحفوفة بالعذابات، عندما كان جيراننا البولنديون بمختلف أماكن اختبائنا يكتشفون هويتنا الحقيقية، فيحاولون ابتزازنا مهددين بتسليمنا للألمان. وفي كثير من الأحيان، كان الموت يكمن لنا بكل زاوية وطريق. في بعض تلك السنوات كنا نعيش معاً، وفي بعضها الآخر مع أمي فقط، أمّا في السنة الأخيرة من الحرب، فكنت منقطعاً عنهما. بتلك السنة، عملت راعياً للأبقار لدى عائلة فلاحين في قرية “زبادي” المجاورة لمدينة “لوفيتش”، وكان عمري عندها 9 سنوات، تملأني الخشية على والدايّ اللذين بقيا في وارسو الغارقة بالإرهاب.
أبي الذي كان عضواً في الخلية السرية البولندية (إيه كي)، فرح باندلاع تمرد وارسو سنة 1944 وسارع للإلتحاق بالمقاتلين، لكنه سقط في معركة اليوم الأول من التمرد والهبّة. عند انتهاء الحرب، كان عمري 10 سنوات.
تزوجت أمي مرة ثانية وحين بلغت سن 15، هاجرنا إلى إسرائيل (أمي، زوجها شلومو غجبين وأنا). مرّت علينا فترة صعبة جداً من الإستيعاب والإندماج، حيث عشنا في المخيمات الإنتقالية (معبروت)، بخيم في حيفا ورمات يشاي وعكا.
بعد مرور سبع سنوات من قدومنا لإسرائيل، مرضت أمي بالسرطان وتوفيت. لم تحظَ بأن تفرح بزواجي من روتي التي أحببت خلال خدمتي العسكرية.
رُزقنا بإبنين رائعين، راز وتال، رأيت فيهما تحقق أحلامي الشخصية جميعها، وأيضاً بقرارة قلبي، رأيت فقرات مسلسل العذاب الذي ذاقته الأجيال اليهودية. مفعماً بالمشاعر، فكّرت بجدّي والد أبي، الراب مناحيم مندل غوترمان من “ردزيمين”، التلميذ الورع الوحيد من بين جميع أفراد عائلتنا الكبيرة التي أبيدت في “تربلينكا”. وفكّرت بأبي الذي سقط بطلاً عند متاريس وارسو.
بعمر 29، أصيبت روتي بالسرطان ورحلت عنّا على الرغم من كل الجهود المستميتة التي بذلناها. حينها، كان عمر راز 4 سنوات، أمّا تال فأقل من نصف سنة.
تركنا “الخضيرة” حيث عشنا بعد مرور سنة على المصيبة التي حلّت بنا وانتقلنا إلى كيبوتس “هعوغن”. راز الفتى الجميل الذي وهبه الله شخصية ساحرة، إندمج بشكل ممتاز وكان محبوباً من قبل جميع أصدقائه. لقد كان عدّاءً موهوباً وفاز مع رفاقه ببطولة المدارس الثانوية في البلاد ضمن مسابقة الركض الميداني، ومثّل إسرائيل ببطولة أوروبا التي أقيمت في برشلونة.
عند تجنيده للجيش الإسرائيلي وعلى الرغم من إبتعاده عن أي من مظاهر العسكرية، بذل راز جهوداً جمة بغية الوصول لإحدى وحدات النخبة. قادته الرغبة في المساهمة بالقدرة الكبيرة الموجودة لديه والتفكير بأنه سيسمح له بالخدمة مع “خيرة الرفاق”. لقد أدى خدمة طويلة شاقة في وحدة “جولاني” وكان على وشك الإنهاء لولا قرار الحكومة الإسرائيلية بالخروج لحرب الخديعة في لبنان. في الليلة الأولى من الحرب بتاريخ 6 حزيران 1982، جرت معركة بطولية ليلية في قلعة البوفور، حيث سقط راز وخمسة من رفاقه.
أسبوعين بعد مقتل راز، بعثت رسالة إلى بيغين وشارون ورفول، مثيري هذه الحرب الإجرامية، إتهمتهم فيها بالإستغلال السافر لحب الوطن الذي ملأ أبناءنا، وبقتلهم على مذبح أهدافهم القومجية السوداء.
كنت من أوائل المنضمين إلى “المنتدى الفلسطيني الإسرائيلي للعائلات الثكلى من أجل المصالحة والسلام”، وأنشط فيه إنطلاقاً من التماهي العميق معه.
إنني على ثقة بأن إنهاء الإحتلال ووجود دولتين لشعبين يعيشان بسلام وتعاون، هما الأمران الوحيدان القادران فقط على إنهاء حلقة الدماء المجنونة، وخلق الأمل بمستقبل يخلو من القتل والثكل.